الصيــــــد

 

مع تباشير الفجر الأولى كان الصيادون قد اتخذوا مواقع متقدمة على الجرف الصخري قبالة البحر، كانت خيوط النور تناوش الغبش تتراقص بتوأدة على صفحة الماء والأمواج تصل تباعا لتتكسر على الجروف وتسرح طويلا في الكهوف العميقة محدثة صخبا وأصواتا متناغمة تؤنس الليالي الموحشة لشاطئ ” تيفنيت ” المنعزل.

انفرد كل واحد من الصيادين القلائل بالموقع الذي وجده مناسبا، وضعت الأغراض والسلل التي تحوي السنانير والطعوم وأدوات الصيد على الصخور وتدلت القصبات من الأيدي واشرأبت من على الأكتاف منتصبة كأنها عواميد تجسس على البحر، كان الجميع في وضع تركيز وانتباه منبتين على الجروف كأنهم أشباح أو تماثيل جامدة، كل في حاله لا ينبس،كانوا ينتظرون وينتظرون، الأيدي منهمكة في تعديل وضع القصبات مرة بعد مرة والعودة ثانية للوضع الجامد المتربص والصمت سيد الموقف، انحشرت بينهم كأني طيف يدفعني الفضول أو ما شئت، لم أكن يوما صائد سمك وإنما من مرتادي البحر للنزهة والتمتع والإنصات لسحر الطبيعة البحرية الخلابة، كنت بينهم جائلا غير مجهز بأي أداة صيد ولا معني بوصول الحوت أو إلتقامه للطعم، يدي في جيبي وكفي طليقة لا أضمر شيئا للبحر وأحيائه،تكفيني منه الرائحة النقية القوية التي تتسرب للخياشيم وتصعد للدماغ وتفتح العيون والنقاء الذي يشيعه الموج وهو يرتطم ويتكسر على الصخور وينشر الرذاذ، كنت أكلم البحر وأسعد بالوحدة والتفرد في حضوره الجليل الطاغي أرافق الصيادين في خرجاتهم البحرية ولم أسع في يوم لتعلم الصيد، كان لي منه موقف واضح فهو يجعلك تعادي البحر وتستولي على أحيائه مستعملا المكر والحيلة والخديعة وهو يتطلب أن تظل يدك منهمكة في أعمال كثيرة قذرة لا تنتهي من شبك السنانير إلى انتقاء الطعوم إلى شد الخيط وتثبيته مع القصبة إلى التربص والجذب والمناورة مما لا يدع لك المجال للتأمل والتفكر ومحاورة البحر وأمواجه والتمتع بنكهته ومرآه،كنت أنصت للبحر، وكانوا يصيدون السمك غير أني لا أنفي عنهم حبهم له ولا بداهة تصرفاتهم أو جدوى سلوكهم معه ولا النفع العميم الذي لا يماريه أحد في ما هم فاعلون قال لي سحبان الصياد، عندما تعلق سمكة بسنارتي أطير من الفرح أرصد حركتها أولا بإصبعي الماسكة بالخيط فيسري ذبيها طول قناتي كأنها كهرباء محببة مرسلة مباشرة إلى قلبي، تلك فرحة الصياد بصيده قال سحبان، عندما تصل السمكة للسنارة أشعر بها مهما كان شدها ضعيفا خفيا وعندما تعلق ينتابني فرح طفولي لا يوصف فأبدأ المناورة لجر الصيد إلى الشط. لا ينبغي إفلاته ليس هناك غصة أفجع من إفلات الصيد أثناء الجذب، هنا تكمن المهارة والحظ وكل شيء، حينما ينشــــل الصيد ويطرح على اليابسة ينتفض انتفاضة الذبيح لهاته عالقة برأس السنارة المدبـــــب الحاد وهو يحاول الإفلات لكن هيهات،فهو قد غادر البحر، كنت أنصـت لكلام الصيـــــــــــاد وأوافقه بإشارة من رأسي، لكن المشهد لم يكن يعنيني في شيء فأمضي وسط الصيادين المنتشرين متجولا في هدأة الصباح الباكر تلك الجنة المفتوحة غير عابئ بشيء فلم أكن صياد سمك، البحر هو الآخر لم يكن معنيا بشيء فهو محتفظ بوقاره وهيبته وجلاله مهما يكن من أمر الصيادين وأسماكهم تلك أحياؤه العديدة المتكاثرة المتناسلة أبدا تذهب وتروح كما يحلو لها أما البحر فهو باق مثل دب كبير عاتي ووقور يحرك ذنبه الأبيض الكث نحو الشاطئ فتتحرك الرغوة الملكية الثائرة ويرتطم الموج بالصخور المتواجدة في طريقه ويستمر في لعبته الدائمة الهادرة غير آبه بأحــد.

قــال سحبان رفيقي الصياد.، عنـدما ترمي سنارتك صوب البحر بعدما تكون سويت كل شيء تقعد للانتظار وعينك ترقب البحر وترنحاته والخيط الرفيع المشدود إلى الماء لا يكاد يبين، تشعر كأن صلة تصلك بالمــاء كأنك متكئ معتمـــد عليه تحسبك فــي جزيرة لوحدك وليس بها غيرك وغيره والقناة والصيد المنتظر كمن يعيش ولادة حلم وخلق جديد، يخلو عقلك من أي شيء آخر ويستحيل داخلك إلى فضاء شاسع مثل البحر فتنعم بالهدوء والراحة وتظل في انتظار الذي يأتي أو لا يأتـي.

فجأة علا هرج خفيف بين الصيادين وبدا أحدهم وكأنه في حالة صراع ومغالبة وهو يميل القصبة شمالا ويمينا جاذبا الخيط ومديرا الأكرة فيما التفت الآخرون ناحيته في فضول، وأخيرا نجح في انتشال سمكة مفلطحة متوسطة الحجم قال سحبان إنها من نوع الراية، بدا صاحب الصيد جذلا وعلى شفتيه ابتسامة ظفر صغيرة فالسمكة متواضعة وليست بالحجم المطلوب وعلى أي كان صيدها علامة ظفر وانتظار وحسن طالع، سحب السمكة على الصخر واستعان بسكين صغيرة لإخراج السنارة العالقة في جوفها مع بقايا الطعم غير مهتم بما يسببه السكين من آلام للسمكة التي كانت لا تزال حية تنتفــض.

قضيت وقتا متجولا سارحا مراقبا الأمواج وهي تتهادى مسابقة نفسها لبلوغ الشاطئ كان مرأى الموج الأبيض اللجوج لا يغادر عيني ولا صخبه العاتي أذني، شعرت قبل أن أروح لحالي أني عقدت حلفا مع الموج الذي أخذ منظره يستقر في خيالي وصوته في أذني وريحه تسكن مسام الشم بأنفي،غادرت الشاطئ مسرعا بخطوات حثيثة تاركا المكان والصيادين وصيدهم وصعدت التلال الرملية المحيطة بالشاطئ إلى أن بلغت أعلاها، كان صوت ارتطام الماء بالحجر الصلد للجروف والرذاذ الرطب النقي المنتشر يتناهى ببط ء في تباعد و رتابة، وقفت متأملا من عل مشهد البحر السارح الممتد وهو يرمي هداياه من حين لآخر لتلك المخلوقات الغريبة الواقفة المنتظرة تلك التي اتخذت مواقعها على الجرف الصخري قبالة البحـر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top