خلـــــود

الزمن مسألة حسابية بسيطة.. فهو يبتدئ يوم ميلادك وينتهي يوم وفاتك وذاك هو زمنك،لا أقل ولا أكثر، أو لم تقرأ مرة شواهد القبور.. أو تريد الظفر بالزمن الوجودي كله.. فذاك ضرب من الجشع والنرجسية.

إذا كانت الطفولة هي العيش في الماضي، فإن الكهولة والشيخوخة هي العيش في المستقبل.

لا أدري لماذا أوحي لي المشي بمحاذاة البحر تلك الصبيحة الرطبة الهادئة بفكرة الخلود، الجو صحو والمياه غامرة نقية، قطع الموج تتلاحق في اتجاه الشاطئ كتنانير بيضاء مطرزة، والهدير الآتي من العمق يقطعه صوت احتساء الرمال لثمالات الرغوة اللاهية على السطح من كل مد وجزر كأنه شهيق.

كنت أعدو مهرولا على طول خط لقاء الرمل بالماء متعقبا وصول الموجات الصغيرة المتلاحقة أرفس برجلي البرك المستديرة فتغور وتنطفئ أعداد الفقاقيع البلورية الشفافة ويفرقع الرذاذ المزوج بعطر البحر وتعود الموجات الصغيرة المداعبة اللعوب لمغازلة الشط وعناق الرمل وتتلاشى وتذوب… وتستمر اللعبة غير آبهة بحرارة الشمس التي صارت ترتفع مع توسط النهار.

لقد كنت سعيدا، وكنت ألعب، وبدا كل شيء جديدا صافيا كأنه خلق للتو، جلود المستحمين العارية، أكتافهم المتوهجة وأقدامهم البيضاء الحافية، ونكهات اليود البحري المنتشر في الجو.

لم يكن تلاعب الموجات سوى من خيلاء البحر وهو يخرج لسانه أو يحرك ذنبه الكث الأبيض الكثيف مثل كلب كبير عاتي ووقور.

توقفت برهة وأنا أشعر بكامل وزني يغور في الرمل ويغمر قدمي الماء، والبرودة تتسرب لأطرافي من أسفل لأعلى، وأعود ثانية أفكر في رغبة الإنسان في الخلود واحتجاز اللحظات السعيدة وأسرها، السيطرة على الزمن والبقاء، وعيني تتابع باهتمام تمرغ الذنب البيض الطويل وروغانه على الرمال الناعمـة.

لم أكن مهيئا ولا محتاجا لمثل تلك الخواطر وأنا في غمرة من السعادة والاستمتاع، لكن مشهد الشاطئ شبه الخالي والجدة التي اتخذها في هذا اليوم الخريفي الدافئ، كل ذلك كان يوحي بما يشبه الحلم والتوق لحياة خالدة، هكذا تطلعت إلى الأفق البعيد مستحضرا ما يثيره الموضوع من أفكار وخواطر بدءا من حكايات تساقط أوراق الشجر بعدما تستوفي رحلة الاخضرار وتؤوب للصفرة فتذبل وتذوي وتموت ولم تمر عليها سوى أيام معدودات، والشأن نفسه بالنسبة للورود والأزهار والرياحين وسائر النبتات الجميلة المغرية إلى غيرها من الحياء كالفراشات والحشرات ومن النمل إلى أم أربعة وأربعين إلى وحيد القرن والسباع والآدميين والحجر والجبال والكواكب والنجوم فكل الأحياء والموجودات تستوفي أجلها وتذهب وتزول وتأتي أجيال غيرها في دورة الحياة العادية العجيبة الخارقة.

كانت الأفكار تتعاقب في ذهني على شكل موجات، في هذا الاتجاه أو ذك، وفكرة الخلود باقية تتبدى لي كبيضة الرخ مستديرة مغلقة لا سبيل إليها، أو كشمس بعيدة متوهجة لا طريق لها، أو حصاة صلبة ساكنة لا تشي بما فيها، أو فكرة طوباوية اصطنعها الإنسان بإيعاز من الطبيعة لحمله على الطموح والأمل والبقاء.

تذكرت برنامجا لأحد علماء الطبيعة يبث بالتلفزيون عن ظاهرة انتحار الخلايا وكيف اكتشفوا خلايا حية لدى بع الأحياء الدنيا سموها خلايا الموت، تعمل في بنية الجسد الحي كالإزميل فتزيل ما هو شائخ وغير ملائم وينبغي أن يموت وتترك ما يجب أن يبقى حيا مستمرا وفق برنامج كامن مسبق واكتشفوا أنها تحيي وتميت وتكرس التوازن داخل أجسام الخلائق، طبعا تلك أمور بديهية ومرتقبة، فلولا موت وتساقط أوراق الشجر القديمة لما أمكن فسح المجال لأوراق جديدة وليدة، ويصح ذلك على النبات والحيوان وعلى الإنسان.

عادت أذني تلتقط آهات وصيحات الموج المتسابق الفرحان، فلازال الكلب الأبيض الكبير يداعب بذنبه الأشعث أطراف اليابسة، وهذا الصوت المزمجر الهادر، ألا يأتي من بطنه السحيق حيث الأسماك والطحلب والمرجان ومختلف الأحياء المائية وما لا يخطر على بال وما نعرف وما لا نعرف عن ساكنته المغمورة، أليس صوته يشبه البكاء والضحك والكلام، وكل ما في أحشائه هو أيضا يحيا ويموت.

تعجبت لغياب الطير هذا اليوم فلم أر طائرا واحدا بالشاطئ ولا حتى خطافا، حتى الحشرات والهوام كانت غائبة، ربما الجميع في عطلة وقد يكونوا في شغل ولم يفكر أحد في الخروج للبحر، أليس اليوم يوم حلم وتأمل.

تقت ثانية للماء فسرت بجوار الموج المتدفق الملاشي أطأ برجلي برك الماء المتطاير من حولي وتداعيات الموجات الصغيرة تخط علامات استفهام على حبيبات الرمل الناعم الرتيب وتنتهي به للاشيء، غطست وغمر جسمي الماء وبدأت أسبح معانقا بفكري بيضة الرخ التي تضم داخلها سر الخلود وبياضها يزيد في غموضها وشفافيتها تشكك في وجودها وعلامات الاستفهام والحيرة المرسومة على الرمال تتراجع لتنضم لجبال الموج الملفوف المتدحرج.. إنه الماء أصل كل شيء ومآله، لغز الألغاز، السؤال والجواب، الأصل والفرع، الولد والجد، اتحاد الشيء باللاشيء، الميزاب والأقيانوس والميزان.

مع هدأة الأصيل ورخاء الريح، ظهرت في الأفق طيور تتهادى في سماء الشاطئ، كان سطح الرمال قد لان وانطبعت عليه آثار أدام حافية وتعالت حركات المرتادين هنا وهناك بالجوار وعلى مرمى النظر، من يلعب الكرة ومن يسبح ومن هو منبطح جاثم جامد.

خفت حركة البحر وتراجعت أصواته وبدت فلول الأمواج بطيئة متثاقلة واختفت علامات التعجب والاستفهام المائية، وبدا البحر حزينا هذه المرة غير آبه لأي سؤال أو جواب، وكأنه مسير من أعلى ومن أسفل ومن العمق ومن كل جانب وكأنه يعاني من الملالة والسأم.

تنحت الشمس مغادرة، وبعض المصطافين بدوا أوابين مرتحلين، وكان طائر يحلق مصوبا جناحا لأعلى وآخر لأسفل كأنه يزجر الموج.

تهيأت لمغادرة الشاطئ أنا الآخر مع خيوط  الشمس التي بدأت تميل للغروب، ورجعت أدراجي على سلاليم الذاكرة لأيام الطفولة المتصرمة حيث تتجاور مشاتل الأفكار ومنابت العادات والميول والعائد وفركت شعر لحيتي وأنا أتذكر حينا الضائع بين الأحياء الشعبية المتوسطة وسط المدينة وبيتنا الأسري حيث يأوي الوالد المسربل في جلاليبه الثقيلة إلى غرفته الأثيرة بسطح المنزل وأعشاش الحمام والعصافير التي دأب على تربيتها وهو الرجل المسن المتقاعد المسالم، كنت أعود من المدرسة الابتدائية تملأ أذني صرخات المدير زروق الذي صفعني يوما عندما وصلت متأخرا فبلت في سروالي وعندما دخلت الفصل مهلوعا رفعني المعلم وهو يشير للتلاميذ إلى  سروالي المبتل والجميع يقهقه ولا يدرون أن ذلك كان من صفعة المدير، وبالطبع لم أحك شيئا عن الواقعة التي سترصف في أدراج الخيبات الصغيرة الطفولية التي لا حصر لها.

كنت أعود من الفصل فأصعد لسطح البيت لأحد والدي مقرفصا وبين يديه المصحف أو كتاب في الفقه أو التاريخ يتأمله بنظارته البيضاء السميكة فأجد عالما خاصا حوله من أشيائه الأثيرة ورائحة الكافور والعطوس والفاكهة اليابسة التي يخبؤها في أدراجه.

كان أبي رجلا من التريخ وأمي حضنا عريضا أهرع إليه فأشم رائحة الصبر والصابون المعطر النفاذ ممزوجا بالحنان والعاطفة العابقة، وبيتنا خليط من الدنيا والآخرة فقد كانت الآخرة والجنة والنار وجزءا من ذاكرتنا وحيزا من دارنا وبديهة من بديهياتنا نحياها كما نحيا دنيانا، وكان ظل الخالق حاضرا بيننا في البيت وخارجه وفي كل مكان وصورته قد استقرت في مخيلتي منذ الطفولة الأولى على شكل رجل له وجه أمي وجلباب أبي وهو قاعد قعدة أبدية يدبر شؤون الخلق ويدير الكون وبين يديه صندوق له فتحة مثل حصالة نقود الأطفال توضع فيها الحسنات والسيئات وتخرج منها الرحمات واللعنات وهو قيم الدنيا والآخرة بما فيها الجنة والنار التي كان لهيبها يطرد من رأسي آنذاك كل فكرة فلا أستطيع تأمل الأمر أكثر من لحظات معدودات أدرك بعدها أنه من المحال استيعابه واحتماله والأفضل تركه جانبا والنجاة بالنفس من سوء المآل، أما فيما يخص الجنان فالأمر مختلف، فكنت أسرح في أفكار الظل الظليل والقطوف الدانية، أكواب الكافور والزنجبيل ولب سيقان الحور الشفافة مثل البلور وغلمان الفردوس الذين لا حصر لهم ولا شغل سوى راحة وخاطر المقيمين المتكئين على الأرائك المتقابلين.

كنت أتيه في أفكاري وأنا أجوب طرقات درب السلطان حي الطفولة الأولى، في أخيلة واستيهامات الجنة ومروج عدن وما تتوفر عليه من طيبات وأكل وشرب ولذائذ وما لا يخطر على بال، إلا أن أخطر ما في الأمر هو ذلك الاستقرار النهائي والمكوث الأبدي إلى ما لا نهاية مثل قطار على سكة تسير عجلاته وتدور بدون توقف ولا حصر فهي عجلات دائرة تظل تدور وتدور إلى ما لانهاية ويدور معها الفكر والعقل أيضا إلى ما لا نهاية فهيهات للتفكير البشري تخيل عملية متواصلة سواء في الواقع أو في الخيال تستمر ويستمر التفكير بشأنها بلا توقف ولا نهاية، إنه أمر مثير للدوار يعرض الدماغ للانفجار لقد كان التفكير في الأبدية وتصورها أمر لا يطاق كان أمرا عجيبا.

كنت أتخيل نفسي وسط أمي وأبي وبعض أولاد وبنات إخوتي وأخواتي الأثيرين لدي ونحن مجتمعين نعيش بين أهل الجنة كما نحيا ونعيش في اللحظة والهيئة التي نحن عليها الآن في أكل وشرب ونعيم مقيم، نلعب ونمرح ونعمل ما نشاء وإن ذلك يدوم ويدوم ويبقى لا نفكر كثيرا ولا نشقى ولا نعرى ولا نشكو من شيء، بل ولا نبرح زمننا ذاك ولا حالتنا تلك فنبقى ونبقى أبدا، ولن تكون هناك نهاية ما بأي شكل من الأشكال أو صورة من الصور، لأننا بكل بساطة سنبقى هناك وسيتجمد الزمن ويتحجر ويرصد إلى الأبد كأنه سقوط في فراغ بلا حدود…

تلمست أطرافي التي سرت فيها مرونة وقوة وتذكرت أني لم أتناول شيئا طوال يومي فشعرت بعضة الجوع وسعادة التفكير في الأكل والشرب والعودة للبيت مع آخر النهار، كنت أغمض عيني غير محتمل فكرة السرمدية تلك وانعدام النهاية، لم يكن رأسي الصغير ذلك الوقت ولا هذا الوقت يتحمل لما لانهاية فكنت أغلق عيني وأشعر بالدوخة والارتجاج ودوار المرتفعات وأنا أفكر في ذلك البقاء المقعر الآبد، وربطت اللحظة وأنا أرفس الموج وأهرول مسابقا وصول الأمواج للرمال في شط الخلود ذلك بزمن الطفولة في الماضي وأنا ألهو وأتيه في مروج الجنة وشواطئها تلك التي بلا ضفاف ولا نهاية وأمواجها الدؤوبة الرتيبة وهي تصل تباعا للرمال واحدة تلو الأخرى بتكرار رهيب دون أن ترسم علامات استفهام أو حيرة أو دهشة أو تعجب أو شك أو حب أو خيبة، موج على موج ورمال في رمال في سكون دائم رتيب وكثبان الديمومة بلا ضفاف ولا حدود ولا تخوم.

في الأبدية ينتفي مفهوم الزمن ويختفي نهائيا ولا يبقى له وجود أو تصور في ذهننا ولا في الواقع ولا يكون هناك قبل أو بعد، بل فقط الحاضر الآني، حيث تحل اللحظة محل اللحظة فلا تلغيها ولا تصرفها ولا تزيلها بل تبقيها معها فتحل اللحظة محل نفسها ويتكون نوع من الصيرورة المفرغة مثل نسيج بينلوب، الخيط يدخل الإبرة وفي اللحظة نفسها يخرج منها فيكون العقد والحل في آن ولا ينشأ التراكم وينتفي القبل والبعد ويتسع الآن اتساعا عموديا وأفقيا وفي العمق ومن كل جانب، فيحل الجزء محل الكل والكل محل الجزء وتتركز الذاكرة في بؤرة لا ماضي لها ولا آت مثل ثقب أسود منقطع عن الماضي والمستقبل اللذان حلا كلاهما في الحاضر، فصارا مثل شلالين متقابلين يصب أحدهما في الآخر بلا بداية ولا نهاية وإلى الأبد أو كساعة رملية يفرغ عاليها بسافلها وسافلها لعاليها أو عجلة تدور في الفراغ حول نفسها ليتحقق الخلود وترسو الأبدية.

تساقطت علي تلك الأفكار كشتاء مفاجئة سريعة بزخات متوالية لا تنقطع فلجأت للمرة الأخيرة لأقتحم الماء وأقفز على الأمواج وتقفز الأمواج علي واحدة واحدة وأنا مهيج أصيح الآن… الآن كل موجة هي الآن وهي الأبدية بذاتها المليئة المتوجة بالرغوة البيضاء الطازجة وهي تغسل بالشلال البارد كل جسمي من قمة الرأس لأخمص القدم فتمتلئ نفسي بالحياة والقوة وأصيح الآن… الآن، كل موجة هي الآن وكل لحظة هي موجة تليها موجة تليها موجة لها بداية ونهاية، لكل موجة بداية ونهاية ولكل لحظة بداية ونهاية ولكل حياة بداية ونهاية.

العجلة الدائرة إلى ما لا نهاية هي أسر واحتجاز إلى ما لا نهايـة.

النهاية خلاص واللانهاية جحيـم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top