عبــــــــور

 

تلك الليلة، آويت لنومك مبكرا بعدما تناولت مسكنا لإلتهاب المفاصل ذلك الداء العنيد الذي عانيت منه وعاودك بكل حدة،كانت فقرات رقبتك تنضغط وتكاد تنسحق تحت عبء التوترات والأحمال المعنوية والمسؤوليات المهنية وكل الهواجس النفسية التي تتصارع معك أي صراع، لم يكن الضيق والألم كل ما هناك بل كان خوفك الحقيقي أو وهمك الكاذب أن يسبب لك ضغط العظام والفقرات تلفا في حبلك الشوكي وقد يحدث لك شللا طارئا بأحد أطرافك، هذا ما نما في اعتقادك وأنت تنتقل من عيادة طبية لأخرى باحثا عن تشخيص لمرضك وعلاج للحالة المزرية التي بدأت تنتابك دون سبب واضح أو علة محددة.

آويت لفراشك وذهنك تملؤه المخاوف ومع ذلك عرف النوم طريقه إليك، فتحت عينيك قبيل الفجر والظلام دامس والصمت مطبق، لم تكن إستيقظت كليا حتى أن صورا من أحلامك بدت متراقصة وسط غرفة نومك، هالات ملونة، أشكال وهيئات طافية متحركة لا تلبث عند التحديق فيها أن تتبدد وتمحي وتزول، لم تكد تعي نفسك حتى بادر شريط أحلامك في التقهقر والانسحاب مسارعا لطي نفسه وطمس معالمه مخافة كشف أسراره، فقد أدركتك اليقظة.

انسللت من فراشك مثل قط وقد غمرتك غبطة التفرد باليقظة وسط هزيع الليل فيما الناس نيام، شعرت بحيوية مفاجئة، ذرعت بلاط الغرفة خطوات بعدما أنرت ضوءا خافتا، حمت حول نفسك بلا هدف وأنت وحدك في الليل وليس معك أحد، استفاقت نرجسيتك، هرعت لدولاب الملابس، فتحت بابه المثبتة خلفه مرآة بمقاس الإنسان، تأملت صورتك المنعكسة أمامك وأنت في منامتك القديمة، واجهتك ملامح رجل خمسيني بدأت أثر السن وثقل الأيام تنال من هيئته، راقبت عنقك الذي يؤلمك، مططت رقبتك التي تكاد تمحي تحت رأسك المحشور بين كتفيك مثل سلحفاة،لمحت بقايا بسمة زهو واعتداد على زاوية من شفتك تتوجها لمعة فطنة من عينيك كأنها تبادر لإنقاذ سمتك الذي يعاني من الضآلة وقلة الشأن، كنت من قبل وسيما وذا خيلاء ونال منك الزمن وتوالي الملمات،أنت تعيش أزمة، تخاف مواجهة نفسك،ما الأمر..؟ماذا حصل معك..! حتى تنقلب عليك الموازين هكذا.. اقتربت للمرآة تطلعت لوجهك وقسماتك الشاعرية لبثت لحظة تتأمل ذاتك همت بها، التصقت بالمرآة شفتك على شفتك قبلت نفسك قبلة طويلة حمقاء.

راحت مرة أخرى يدك تتلمس رقبتك تتحسس مواضع الألم والضعف فيها، مددت عنقك لليمين ثم لليسار، بدت الفقرات متماسكة والعنق سليم إلى حد ما، سكن ذلك الألم المراوغ المتربص، كنت تعلم أنه يتوارى يختفي ويعود ويتنقل كما يشاء كالمصارع المستأسد على الحلبة، سيعود كما هو شأنه دائما، رغبت في التمشي قليلا، ذرعت أرض غرفة النوم خطوات أفضت بك إلى الصالون ذي النافذة المفتوحة أطللت للخارج، تنفست هواء الليل، تنفست عميقا مرات متتالية للأعماق.

كان الهواء يملأ رئتيك لكنك شعرت بنوع من عدم الإحساس في وسطك، بدا جوفك خاويا مثل بالون منتفخ بالريح، شعرت ألا شيء يربطه بباقي أعضـــاء جسمك، خمنت أن يكون هذا ما جعل جسدك يفقد مرونته وعظامك تتصلب، خمنت أنك وضعت يدك على مشكل بطنك المنتفخ الذي يخفي ما يخفيه، عنده تتــوارى الأســــرار الهاربة من كل مراقبة، تتخذه لها مسكنا ومقرا، هاهي التوترات والضغائن والمكبوتات اجتمعت كلها في المنطقة الوسطى المحرمة، لقد اتخذ البطن له استقلالا ذاتيا، قطـــع اتصاله بباقي أعضاء الجسد، أحسست أن تلك المنطقة المعزولة جعلت لنفسها مدارا داخليا وأحاطت نفسها بغلاف هوائي يفصلها عن الخارج تنحبس عنده الأنفاس وتمنع زوابع التوترات الكامنة فيه دخول الهواء وخروجه،إنها منطقة المعدة سيدة أعضاء الوسط، المعمل الكبير الذي ينتهي إليه كل ما يتم التهامه وتناوله ويتسرب إليه من أحاسيس ومشاعر وتوترات ورغبات مكبوتة، كان الحاجز المحدودب يمنع الرئتين من الامتلاء والتمدد فتنقطع الأنفاس وتشكل ثقلا جاثما على الصدر، هكذا اكتشفت، ارتحت لما اهتديت إليه وأقررت بضرورة إصلاح حال جسمك وصحتك العامة باتباع حمية منظمة والمثابرة على التمارين الرياضية لتخسيس البطن وتنحيف الجسم والتنفس العميق، ولما كان ذلك يعني نجاحا باهرا ورؤية سديدة فقد وعدت نفسك بنومة هانئة في انتظار انبلاج الصبح لتقوم قومتك الظافرة وتطبق برنامجك النموذجي، خمنت أن تفعل شيئا كماليا تتوج به رؤيتك الخلاقة وبديهتك التي أثمرت الليلة ثمرتها، وقعت عينك على كبسولة مرهم التدليك العضلي الموضوعة على الطاولة وهي لازالت على حالتها العذرية فقد اقتنيتها صباح اليوم فقط ” كيتوم ” هذا هو اسمها كبسولة منتفخة سمينة مثل امرأة ناضجة ما إن تخرم رأسها بإدارة غطائها اللولبي الحاد عليه بشكل معكوس حتى ينسكب المرهم الفضي المذاب كأنه الماء الزلال فتزكمك رائحته القوية التي تشي بطاقته الهائلة الكامنة، ضغطت الكبسولة فملأ السائل كفك فسارعت بلبخه على قفاك حيث الألم الدفين ودلكت ودلكت صعودا من أسفل لأعلى كأنك تدفع السائل اللزج النفاذ ليدخل نخاعك الشوكي إلى أن جف الجلد بعدما تسرب السائل كله للداخل وأرحت رأسك على الوسادة واستسلمت للنوم غير مقدر عواقب فعلتك.

عملت ” كيتوم ” عملها في قفاك فتسربت للعظام والأنسجة ونفذت للنخاع فخذرتة في غفلة منك، صعد الخذر للرأس وتفشى في الأطراف دون أن تعي شيئا فأنت في نومتك مسافر في عالم الأحـلام.

كعادتك خلال وعكتك الصحية أفقت مع طلوع الشمس، وحالما فتحت عينيك ووعيت نفسك وجدت يدك شبه معقوفة، حاولت تحريك أصابعك فلم تطاوعك، هببت جالسا، مددت رجليك للأرض استعدادا للوقوف دون جدوى فقدماك تهويان، أحسست بالأرض تغور من تحتك، تحاملت على نفسك واستويت واقفا بصعوبة فما عدت تشعر بأطرافك، عمك الفزع وشلك الخوف عن التفكير فتسمرت وذهلت،هل أدركك الشلل كما كان ذلك محذورا .. هاأنت أمام حقيقتك العارية وقد دقت ساعتك،غلا  رأسك مثل أتون، امتقع وجهك واشتدت ضربات قلبك لقد كنت في حالة طوارئ.. اعتقدت أن الشلل يغزو أطرافك ويسابقك مسابقة عقارب الساعة لذلك فقد اشتغل عقلك بسرعة للقيام بما يلزم لمواجهة حالة الطوارئ تلك، رحت تعد الدقائق واللحظات في سباق مع ما اعتقدته شللا قبل انتشاره في باقـــي أطرافك، نما في اعتقادك أن عضوك التناسلي جمد ومات وقدرت أنك لن تستطيع حتى التبول بل لن تستطيع إبتلاع الريق، سينتهي بك الأمر سريعا إلى الكساح، قد يكون ذلك خلال يوم أو يومين أو على أقصى تقدير خلال أسبوع أو شهر،كان اليقين بنهايتك قد تمكن منك، نظـــرت لوجهـــــك في المرآة فلــــم تعرف نفسك من شدة امتقاعك وتجهمك،الشعر مشعث،الخوف متمكن من التعابير بل الرعب، لقد كنت مرعوبا رعب النهاية، فزع الساعة كمن ينفذ بحقه حكم الإعدام.

كانت الساعة تشير للسابعة،عندما فكرت باللجوء للطبيب بعدما استرجعت بعضا من هدوئك،طبيب جراحة الأعصاب الذي تعرفه، عيادته عل مسافة نصف ساعة بالسيارة، عليك إعداد نفسك لعملية جراحية صعبة ومعقدة على عمودك الفقري لتوسيع الفقرات وانتشال النخاع الشوكي والأعصاب الممتدة للأطراف من كماشة العظام،تلك العملية الخطرة التي قلما تكلل بالنجاح وقد تخرج منها كسيحا أو معاقا وقد تفضي بك إلى الوفاة.

عزمت على ارتداء ملابسك كيفما اتفق واللحاق على عجل بعيادة الجراح،كان عليك غسل أطرافك وحلاقة ذقنك فأنت مقبل على فحوص وعملية وقد ترقد بالمستشفى أياما،دخلت الحمام، بدأت بغسل أطرافك مغالبا متجاهلا حالتك،جعلت بقوة إرادتك قدميك تمشي ويديك تعمل، وضعت صابون الحلاقة على ذقنك، بدأت حلاقتك بهدوء،نعم هدوء،لقد ساد نفسك فجأة بعض الهدوء والانتعاش بل نوع من الاسترخاء العصبي العجيب وأنت في حالتك الشاذة تلك، أنت الذي تنتظر الموت بعينين مفتوحتين اليوم وليس غدا،تسترخي تتشجع بل وتنعم بحالة سيطرة عجيبة على النفس،لقد مرت حالة الرعب القاتل اجتزتها وفسحت لحالة جرأة غير مألوفة لتأخذ موضعها وتصير هي سيدة الموقف،جرأة في مواجهة الموت هل هو تأثير الأدرينالين سلاح المقاتل الأعزل أم هي طاقة غريبة نفسجسدية في مواجهة الحالات الحادة إنه إدراك ألا مفر ولا مهرب ممكن، ذكرت بيت الشاعر حيث قال:وإذا لم يكن من الموت بد، فمن العجز أن تموت جبانا.. إنه حال المواجهة وجها لوجه، بل قد يكون حال الخلاص النهائي.. من كل شيء مضى، من كل شيء عالق، التحدي، التقبل الواعي للحالة الطبيعية جدا، حالة الموت والنهاية، نهاية كل شيء، كم هي بديهية وتكاد تكون عادية  مواجهة النهاية بعد اجتياز حاجز الخوف والإرتعاب، لقد أوشكت على الضحك من نفسك وأنت تتقدم نحو مصيرك يسودك هدوء عجيب ومن فرط إدراك بساطة وبداهة النهاية التي لطالما تصورتها مرعبة ومفزعة بل تكاد تقول إن لها بعض الجمال إن لم يكن بعض الجلال، نهاية الجسد الذي رافقك ورافقته أكثر من خمسين عاما، نهاية الحياة اليومية المعتادة والروتين العادي، نهاية أسرة واخوة وأقارب وأصدقاء وزملاء، ارتديت ثيابك بالتوأدة اللازمة فلم يعد هناك سبب للاستعجال أو القلق، تأنقت في ملبسك وتعطرت بعطرك المفضل وأخذت أوراقك ولوازمك وحقيبة نقودك وغادرت منزلك لا تلوي على شيء.

هناك في الشارع العام كنت تمشي الهوينى منتصب القامة مرفوع الرأس كأنك ملك، كنت تمسك روحك بيدك تقدر نفسك تجلها تلك التي لم تخف وهي تعبر مطمئنة إلى مصيرها، لم يعد هناك ما يخشى الآن،شعرت أنك لم تعد من أهل هذا العالم، أنك شخت ورأيت ما لا يرى، أنك تقبض على قدرك، شعور الأب أو المعلم العارف القادر المنسحب في تواضع وكبرياء، لذلك فقد رميــــــت بعلبة الدواء الذي كان رفيقا لك فلم تعد في حاجة لدواء الآن، ناديت سيارة أجرة، أسررت للسائق عنوان عيادة الطبيب وتمددت في مقعدك إلى جانبه وأغمضت عينيك وعجلات السيارة تنهب الطريق في تلك الصبيحة الرطبة العجيبة.

كانت الساعة تشير للثامنة عندما ترجلت من سيارة الأجرة بعد توقفها بباب العيادة الجراحية وصعدت الدرج إلى الطابق الأول، خبرت الممرضة بحالتـــــك المستعجلة، أجبرتك أن الطبيب لن يصل إلا في حدود التاسعة أي بعد ساعة كاملـة.

عدت أدراجك، لجأت لأحد المقاهي بالجوار وطلبت إفطارا سريعا مختصرا وجلست تفكر في حالتك، كنت كمن يحمل تابوته بيده،صدمة، كبرياء، عناد، توجس لامبالاة، شعور غريب غير مسبوق بكونك تنتقل من مرحلة لأخرى جديدة، أحسست أنك وحيد في مواجهة العالم، قاب قوسين أو أدنى من لوج العالم الآخر حيث كل شيء سيكون مكشوفا، لن يسع بعد التواري أو المراءاة، لن يسع الكذب أو الخداع، أنت كمن يحمل كتابه بيده وقد حصر ما فيه، لن تنفع أية إضافة الآن، من شرفة المقهى الذي كنت جالسا فيه بدا لك الجبل المطل على المدينة محدودبا كجمل رابض والمدينة جاثمة تحته في امتداد أبيض أنيق، نما في سرك اعتقاد بليغ بأنك اليوم في انتظار ساعتك التي أزفت،كانت السماء زرقاء وبعض السحب تظلل الجبل تكاد تغشاه وتمتزج بالضباب المنتشر في سماء المدينة لم تحد عيناك عن الجبل وأنت في قعدتك تلك تتفادى النظر للهاوية المقتربة من قدميك لتبتلعك، بدا لك الحجر الصلد الترابي للجبل متململا مرتعشا، كانت لحظة صلاة صادقة بقوة الأشياء، كانت شفتاك لا تفتران عن التسبيح، فكانت كلمات ربك سندك في المواجهة الحادة، لم تبارحك الجرأة، ومن ثم كنت متيقنا أنك ملاق ربك توا، بأخطائك وسيئاتك وحسناتك القليلة، وبدون صلاة، لم تلتزم قيد حياتك بالصلوات… لكنك كنت تسبح دائما وتجتهد في التسبيح والذكر كنت تسبح تسبيحا رائعا مخلصا ملؤه الخشوع والتضرع والإجلال وأذن سوف تقابل الله معتمدا فقط على تسبيحك فقد ذكرته كثيرا وبروعة، أعمالك الجيدة تصرفاتك المخلصة تسبيحاتك الضارعة هذا كل ما هناك ستجادل وتدافع عن نفسك بهذا.. وقد يكون كافيا لمواجهة الموت ومقابلة الله، أكبرت في نفسك رباطة الجأش وعدت فنظرت للجبل المحدودب أمامك كأنه ساجد وتطلعت للسحب البيضاء  وهي تتململ وتنقشع مثل قطع من القطن الأبيض تتخللها صور وأشكال باهرة الجمال والجلال كتجليات إلهيـة ودار بخلدك أنك سوف تشهد منظرا لم تكن تحلم به قيد حياتك،منظر التجلي الإلهي الملأ العلوي التسبيح الملائكي الترتيل القدسي في لمحة واحدة على سماء الجبل خمنت وجود الله متجليا كمن رفعت عنه غشاوة أو كمن حط بالبرزخ ما بين عالم الغيب وعالم الشهادة.امتلأت عينك بالمشهد وقدرت أن ذلك كفاية، نهضت للعودة لعيادة الطبيب وفي الطريق لسلم العمارة مررت بكشك جرائد ومجلات مصففة على الرصيف، كعادتك  حامت عينك حول أغلفة المجلات وعناوين الصفحات الأولى للجرائد،لكنها استقرت على غلاف لافت لمجلة شهيرة آتية من بلاد ما وراء البحار تتصدره صورة رجل مهيب بعينين صافيتين وبسمة عريضة يرتدي لباسا أبيض ناصعا ويلوح بيد تكاد تخرج من الصورة وبأسفل الغلاف كتبت بالبنط الكبير وبلون أسود لامع كلمة، لا تخف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top