سـؤال:
في البداية نود أن نطلع القارئ الكريم عن ورقة تعريفية لهشام فتح الله وعن الذكريات التي يحتفظ بها فيما يخص القصيدة الأولى التي تخلد لبدء شرارة الإبداع.
جــواب:
أولا دعني أعبر لك عن مدى إعجابي وسروري البالغ لبزوغ جريدة منتدى الجنوب واشعاعها داخل وخارج منطقتنا التي هي في أمس الحاجة للسان حالها ينطق بسرائها وضرائها ويعبر عنها، فلأول مرة تستطيع المنطقة الافتخار بتوفرها على مرآة من خلالها تتطلع على أحوالها وتاريخها ومستقبلها، وهذا ليس بالمستغرب فنحن هنا ب “أولاد تايمة” نستحق أن تكون بين ظهرانينا جريدة تكون لنا لسانا وعينا وقلبا نابضا ومتتبعا للسيرورة الاجتماعية والعمرانية والثقافية للبلدة ولا أخفيك أني شعرت بزهو وأنا أطالع الأعداد الأولى للجريدة لأرى مقاربات لتاريخ المنطقة وأضواء كاشفة تلامس زواياها وجهاتها وشعرت وأنا اتصفح تلك الأعداد بأننا هنا بأولاد التايمة قد بلغنا النضج وآن الأوان لتحقيق مدينة هوارة الكبرى كما أتصورها مستقبلا بأهلها وترابها وشخصيتها المتميزة الفاعلة.
وجوابا عن سؤالك بخصوص ورقتي التعريفية والقصائد الأولى أجيبك أن هشام فتح الله من مواليد الدار البيضاء في بدايـة الخمسينات وقد كانت لي منـذ الطفولـة ميول أدبية وفنية قوية وواضحـة المعـالم لازمتني خلال سنوات الصبا واليفاعة وتعهدتها تعهد الهاوي المتمتع والمستمع إلا أني سلكت درب الدراسات القانونية نظرا للمتطلبات الظرفية ووجوب التسلح بمهنة تضمن العيش وسط مدينة اقتصادية كبيرة كالدار البيضاء، لكني مع ذلك لم أقطع أواصر الحب والولع مع الأدب وفن الرسم والتشكيل وواصلت مسيرتي بصورة عصامية ولازلت.
أما عن ذكريات القصائد الأولى فجذورها تعود إلى زمن الطفولة حيث استبد بي حب القراءة والمطالعة والتثقف وكنت التهم كل ما وقع بين يدي من كتب ومجلات وجرائد ، وأحاول بدوري التعبير كتابة تارة بالتقليد وتارة بمحاولة الخلق والإبداع على شكل أبيات شعرية وخواطر أو تأملات أو محاولات في كتابة القصة.
إلا أن الكتابة الحقيقية لم تبدأ إلا بعد ولوجي الميدان العملي واحتكاكي القريب المباشر بالواقع وتراكم التجارب الحياتية حيث انطلقت الشرارات الأولى لذلك الاحتكاك على شكل كتابات شعرية ولوحات تشكيلية تضمنها ديواني الأول ” بين الجسد والروح ” المنشور سنة( 1999 ) الذي ضم عشر مجموعات شعرية أولاها مجموعة ” اللحظات الموالية ” التي تضمنت أولى القصائد الناضجة خلال بداية الثمانينات وهي قصائد وجدانية وعاطفية ووطنية، كما أن لوحاتي عرفت طريقها إلى قاعات العرض بوصفي فنانا هاويا ذو أسلوب خاص هو أسلوب التجريد الهندسي ومتابعا للحركة الفنية.
سـؤال:
شاعر رسام ومحامي أليس صعبا أن تلبس كل هذه الهموم مجتمعة؟ وهذه القدرة على المزج بين العمل الذي يكون العطاء فيه عادة للخارج والعمل الإبداعي الذي يحتاج إلى نوع من الانغلاق على الذات.
جواب:
شاعر رسام ومحامي:نعـم !.. هذا قدري ولم يكن منه مفر فنشاطاتي تعبر عن ميولاتي الفطرية وتوجهاتي الفكرية والتي أردتها كلها ولم أشأ التخلي عن واحدة منها رغم ما يسببه ذلك من صعوبات ومشاق، فالقراءة تغطي كل وقتي تقريبا فأنا أطالع وأتصفح طول الوقت وذلك مبعث متعتي وراحتي الفكرية، والكتابة تأتي في كل لحظة تلقي على شكل خواطر وأفكار وأبيات شعرية أو نصوص ومقاطع كاملة، وهي لا تستشير ولا تحدد وقتا وإنما تأتي هكذا مثل الريح والطيور والصدف السعيدة وقد تنتشر أحيانا كالهموم والسحب المسافرة وعليك تسجيل كل ذلك على الورق قبل فوات الأوان فإن فرطت في تلك اللحظات الثمينة الغنية فلن تنتظرك هي بل تذهب لحال سبيلها وعليك أن تكون يقظا وقت طرق خواطر الكتابة وأن تكون جاهزا لاقتناصها وجعلها تدخل القفص من أجل تدجينها وصياغتها وحبكها وترتيبها حيث ستكون ملكا لك فهي قد ملكتك نفسها وما عليك إلا أن تكون لها نعم الراعي والمضيف.
وأما الرسم والتشكيل فهو سرحان وتيه الخطوط على الورق والريشة والصباغ على القماش وهو قضية بصرية بالأساس تهم نطاق العين والرؤية بخلاف الكتابة التي تعتبر مسألة لغوية تشغل مناطق الدماغ والأعصاب المتخصصة باللغة والكلام فيما يبقى ميدان التشكيل والرسم محوره العين لذلك فالفن واحد لكن دروبه مختلفة ومتشعبة ومتباينة فأنت مثلا عندما تكلم صديقا عن موضوع ما.وتعوزك الشروح اللغوية قد تعمد إلى بسط الأمر على الورق على شكل تصميم أو رسم بياني أو حتى باستعمال الألوان أحيانا وهذا بالضبط ما يفرق اللغة عن التشكيل.
فالرسم لغة بتعبير آخر واللغة رسم بأسلوب خاص كلاهما تعبير عن الفكر والروح لكن لكل منهما وسائله وقنواته ودروبه وكذلك الموسيقى ميدانها الأذن والسماع ، وكذلك تتنوع أنماط التفكير البشري وتتباين في إدراكها وتعبيرها وتناولها للظاهرة الكونية والظرف الإنساني من النظرة العلمية الموضوعة الهادئة إلى التعليل الفلسفي الرياضي المتوازن إلى الرؤية الشعرية والتصورات الفنية الجامحة إلى العقل الديني المستشرف لأفاق الغائية وما وراء الطبيعة غير أن تلك الأنماط وزوايا النظر المختلفة تبقى جميعها مرتبطة بالظاهرة الإنسانية نفسها صادرة عنها وملتفة حولها كشجرة متصلة الجذور متشابكة الفروع مشاعة الأغصان والأوراق والثمار تسقى من ماء واحد هو ماء الوحدة الكونية والحياة العامة المشتركة لمختلف الأحياء على الأرض.
وقد سألتني عن كيفية الجمع بين مهنة المحاماة وممارسة الكتابة والفن التشكيلي، وأنا بدوري أتساءل كيف تأتى لي الجمع بين ذلك ودون أن أدري وجدتني أحمل بيد واحدة ثلاث برتقالات أقدر كل واحدة منها حق قدرها ودون أن أجعل أي واحدة منها تسقط ألم أقل لك في البداية أن ذلك كان قدري أن مهنة المحاماة هي الشريان الأساسي الذي يربطني بالواقع المعاش وحياة الناس على أرض الواقع وهو في نفس الوقت الذي يغذي الشرايين الأخرى الفنية والأدبية ويجعلها تتلاقح فيما بينها ويغني بعضها بعضا.
سـؤال:
الشعر كرؤيا خلاص مستقبلي هل هو موقف كذلك؟ ومتى يتشبث هشام فتح الله بجمرة هذا الشعر ومتى يأخذ استراحة محارب.
جــواب:
الشعر ليس فقط نغما، تطريبا، ترجيعا وصدى .. بل رؤية متكاملة، زاوية مشاهدة خاصة وتفكير حر، تقليب للأمور، ليس مجرد استراحة المحارب.. لا يتجلى فقط في بلاغة القول وإنما في الغوص والإبحار في قلب العوالم الكامنة وتلك الظاهرة.. في المعقول واللامعقول..
الشعر حوار مع النفس أحادي، ثنائي، ثلاثي وأكثر، ما بين اللاشعور والشعور، الأول بالتواءاته الطبيعية وتمنعه ودلاله، مكره وبلاهته ومغناطيسيته، والثاني بكل ما أوتي من حكنة ومعرفة وعقل.
للكتابة الشعرية روعة المجهول الذي ليس له تخوم، روعة المطلق الكثيف ذي الوجوه العديدة المتقلبة، الكتابة الشعرية الحادة ذات التجاويف المغلفة بالعاطفة والشجن، دهاليز الخوف، سلالم الفرح، آبار الضجر، مغارات الغبطة وحمى الفراغ.. الهلوسات الهيلولا.. حميا الأنس والطرب، الشهيق والزفير والنبض مع دقات القلب والحياة.
كي تقول شعرا، ليس بالضرورة أن تكون في باريس أو فينيسيا أو القاهرة، أو وسط غابات الأمازون وجبال الهمالايا أو أرخبيلات الهاواي أو في ذلك المكان المعلوم الذي من صنع الخيال والذوق الرومانسي.
ستقول شعرا أينما كنت ووجدت، سكنا فوق أغصان شجرة، محبطا في قعر بئر مظلمة، مدلهما في دجى من دياجي السجون، منزويا داخل صندوق إسمنتي بشقة من عمارات السكن الشعبي المنسية، أو وسط برميل مدحرج بصحراء لا حدود لها ولا وجود لهــا..
أن تكون نملا أو عملاقا أو شجرة، حصاة أو إنسانا بمعنى الكلمة، أو مجرد سافل من السفلة، أن تكون شاعرا، فذلك بميسورك مقابل شرط وحيد، واحد فريد، أن تقول الحقيقة، وحدها الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ولو في الســر..
سـؤال:
جرأة الخوض في الذات والممنوع والخروج عن الجاهز، هل تعتقد أن المبدع المحلي سيعبر جسر هذه الأمور بأمان ويلحق بإخوانه في العالم العربي الذين علا صوتهم من زمن بعيــد.
جــواب:
من المعلوم أن دروب الأدب والفن هي دروب إستثنائية ولا يلجها إلا أشخاص إستثنائيون لابد لهم من ركوب خيول الجرأة والحرية وكذلك التضحية وهكذا يكون الفوز بلقب كاتب أو شاعر أو فنان عمل استحقاقي في الدرجة الأولى وعمل بطولة وليس نشاطا عاديا يروم السلامة ولا يخوض في المغامرة، لذلك فإن شعراء كبار انطلقوا بالأساس من المحلية ووصلوا القمة في مسار طويل، شاق محفوف بالمثبطات لكنه ممكن وجذاب ونتذكر طه حسين الذي انطلق من قريته حتى وصل إلى أعلى الصروح الثقافية وجبران خليل جبران الذي كانت انطلاقته من قريته بشري من لبنان ومسيرة المفكر المغربي عابد الجابري الذي ضمن كتاب سيرته الذاتية انطلاق رحلته الثقافية من تافلالت، وأنا أشجع الأدباء الذين يعتقدون أنهم محليون في البداية لأنهم قد يتواجدون في بلدات صغيرة أو قرى نائية لكن العبرة بالمجال الذهني الواسع والخيال الشاسع والطموح البعيد المدى. إن الثورة التكنولوجية للمواصلات صارت تربط الإنسان بالشبكة العالمية الكونية وعن طريق حسن التعامل مع وسائل الإتصال الحديثة من الانترنيت وغيرها يتأتى لأي كان أن يلج ويلتحم بالمجال السمعي البصري للساحة الثقافية الوطنية والدولية ويكفي أن تتأكد له الرغبة القوية ويتسلح بالزاد الثقافي الضروري المتجدد ويتخذ العزم على التتبع والممارسة الثقافية.
ســؤال:
يلاحظ القارئ وهو يقرأ ديوانك بين الجسد والروح وجود بعض المصطلحات التي تحيل على المجال القانوني، بمعنى، هل ترى أن الشعر لذلك يمتزج بعملك؟… أم أن هناك نقاط يلتقي فيها المحامي بالشاعر.
جــواب:
إن تسرب المصطلح القانوني إلى بعض قصائدي الشعرية يتم عن طريق التدفق اللاشعوري وهو دليل على صدق التجربة وعفوية اللغة الشعرية ولا يخلو من مصادقة واعية ذلك أن نظريتي في الشعر تقارب شعرية النظرة العلمية التي افردت لها فصولا من كتابي الجديد قيد الطبع ( دروب حائرة) وبذلك فقد حاولت تدجين ونحت المصطلح العلمي في مجمله ذلك أن البحث عن الشعر مثل البحث عن الذهب، لابد من الحفر في الجبال وغربلة أطنان الأتربة من أجل ذرات أو بضع عناقيد من الذهب.. أي من الشعر، لقد بحثت عن الشعر في كتب الميكانيك ووصفات الدواء، وفي بطائق استعمال الآليات والأجهزة.. في كتب علم الحشرات ومنطق الطير ولغة الكيمياء وكشوف الحساب ودلائل التليفون، بحثت عنه في تقلب موجات الأثير وحتمية التاريخ وقانون الجاذبية وأسرار علم الذرة، وليس ذلك بجديد فقد صدرت ديواني الأول بقصيدة مقتبسة من نشرة مضاد حيوي سحبتها من أرشيف صيدليتي المنزلية، وكان تحديا في البحث عن الشعرية في أقصى الأقاصي وفيما يستبعد أن يستساغ وفيما لم يخطر على البال..
ســؤال:
ما هو موقفكم من تيار الشعر الحديث والتحولات التي يشهدها على مستوى الشكل والمضمون.
جــواب:
الشعر الحديث كما هو الشأن بالنسبة للفن الحديث عرف حركات تحررية كبرى مع بداية القرن واكبت تحرر الإنسان جسدا وفكرا و روحا مع التطور العلمي والتكنولوجي الذي أتى بعد الثورات الفكرية التي حررت الإنسان وعلومه وآدابه وفنونه من الكثير من قيود القرون الوسطى لكن حركة التحرر سواء في الأدب أو الفن مالبثت أن صارت تعاني من الفوضى ومن سليلتيها العبثية والعدمية لذلك بصدد تحولات جديدة تبحث من ضوابط وربما قوانين جديدة، ترجع للشعر والفن جديتهما وهيبتهما من جديد، وهكذا ذواليك تتعاقب موجات التحرر مع موجات التقييد في الشكل كما في المضمون طورا بعد طور من أجل التجديد وضخ دماء جديدة في شرايين التعبير الإنساني عبر التاريخ.
سؤال:
لك مؤلف جديد لازال قيد الطبع، حدثنا عن هذه الخطوة المهمة، وهل يحمل جديدا على مستوى الشكل والمضمون..؟
جواب:
بالفعل يوجد لي كتاب جديد قيد الطبع بدار النشر المغربية وهو كتاب خواطر وتأملات جعلت له عنوان ” دروب حائرة ” ومن المنتظر أن ينشر مع مطلع السنة المقبلة 2005 وإن شعرية النظرة العلمية وصوفية التماهي الجسدي الروحي ووحدته الكونية هما شعارا هذا الكتاب الذي يجمع بين دفتيه، شذرات وشظايا أفكار حول الكون والطبيعة والإنسان، كانت وليدة ظرفها ومخاضها الخاص بها فأقبلت على شكل موجات متباينة التردد والكثافة وصورة أطيار محلقة في فضاء المرئي والمتخيل، وهيئة نسائم منسابة في الدغل والعميق، منها من اجتمع واتصل فتصاهر وتجانس ومنها من أكتفى بالمجاورة والمساكنة والمرافقة، ومنها من استوحد واستفرد واتخذ له معزلا وسبيلا … فكان لزاما علي في صياغة هذا الكتاب الجديد أن اسلك مسلك الراعي الأمين فاكتفي بتقديم المأوى وتهيئ المرتع وتنقية البيت، شعاري في ذلك تعقب الشعرية في تجليات الطبيعة الكونية وتلمس الغنائية من بين ثنايا الحقيقة العلمية، واستخلاص الحكمة من علامات الحيرة والســؤال، وهو كتاب كما اسلفت يضم خواطر وتأملات حول الطبيعة والكون و الظرف الإنساني.